لا يكاد يمر يوم إلا ونسمع عن جريمة متصلة بشبكات «التواصل الاجتماعي»، وسيكون هذا أمراً مفهوماً بالنظر إلى الدور الآخذ في الاتساع لتلك الشبكات في الحياة الإنسانية الراهنة، لكن هذا الاتساع وفر أيضاً فرصاً سانحة للكشف عن الكثير من الجرائم، وإجلاء غموض بعض جوانبها.
وفي مجالات الأمن الجنائي والسياسي، أضحى تقصي تفاعلات أطراف الجرائم المفترضة والمشتبه بهم على الشبكات الاجتماعية، إحدى الخطوات المبدئية والضرورية لكشف تفاصيل تلك الجرائم وتحديد المسؤولية عنها.
ولذلك، انتبهت مراكز التفكير المعنية بدراسة الإرهاب والتحديات الأمنية مبكراً لهذا الرابط، وخصّصت له الكثير من الدراسات والبحوث، التي اتخذ معظمها منحى ميدانياً، وستبرز ضمن تلك الجهود بعض الدراسات التي أكدت فاعلية عمليات تحليل التفاعلات على الشبكات الاجتماعية في كشف الكثير من الجرائم وتحديد المسؤولية الجنائية للفاعلين.
وفي عديد من الجرائم التي لاقت اهتماماً عالمياً، كانت «الإنترنت» ومواقع «التواصل الاجتماعي»، جزءاً جوهرياً من التحقيقات التي أفضت إلى نتائج متشابهة، وأكدت جميعها الدور الكبير لهما في التحريض والإعداد والترويج لتلك الجرائم. وفي مجال الأمن الجنائي، سيظل موقع «واتس آب» للتراسل، وغيره من مواقع التراسل المشابهة، أحد أهم المناجم التي يجد المحققون فيها أدلة اتهام صلبة يمكن أن تغير منظور مقاربتهم للقضايا، وأن توفر مدخلاً لإقامة الاتهام وإثبات الإدانة.
لذلك لم يكن مستغرباً أن تخصص مؤسسة بحثية مهمة مثل «راند» مبحثاً في دراستها «رصد وسائل التواصل الاجتماعي»، الصادرة في العام 2017، لـ«تحليل الشبكات الاجتماعية» (Social Network Analysis)، باعتباره إحدى أهم وسائل توقع العمليات الإرهابية وكشف أبعادها، وهو التحليل الذي يرمز له بالحروف الثلاثة «إس إن إيه».
وكما ظهر في التحقيقات التي تلت الكثير من الجرائم الإرهابية الأخيرة، فإن تحليل الـ«دي إن إيه» (الحمض النووي) ظل عاملاً جوهرياً في تحديد الهوية البيولوجية للجناة والمُشتبه بهم، والآن يؤدي تحليل الـ«إس إن إيه» دوراً لا يقل حيوية في تحديد دوافع الإرهابيين والمجرمين الجنائيين وأفكارهم وروابطهم التنظيمية. وفي عديد من الدراسات التي سعت لـ«فهم سلوك الإرهابيين» تم التركيز على هذا المنجم الثمين، الذي يُمكّن السلطات من رصد تفاعلات المستهدفين بالتحقيق، وتفكيك شفراتهم، وتحديد الحركية اللغوية التي يستخدمونها، وإدراك الكلمات المفتاحية المتعلقة بأنشطتهم الإرهابية.
وفي العام 2016، بدأت السلطات الأمنية في الولايات المتحدة تفعيل استراتيجية أمنية ترتكز على إخضاع طالبي اللجوء لتحليل الـ«إس إن إيه»، ساعية إلى تطوير برمجيات مناسبة للتعامل مع ملايين الحسابات على وسائط «التواصل الاجتماعي».
وبعد ذلك بعام واحد، بدأ عدد من البلدان الغربية في تعزيز المنظومات التشريعية للتعامل مع هذا الارتباط الواضح بين الأنشطة على «الإنترنت» والعمل الإرهابي، فضلاً عن استخدام تحليل التفاعلات على الشبكة في كشف الكثير من تفاصيل الجرائم الجنائية وأبعادها ودوافعها.
وفي عديد من البلدان، خصوصاً في العالم الثالث، يظل تحليل تفاعلات المشتبه بهم في القضايا السياسية طريقة ناجحة لبناء أدلة الاتهام، وكشف الأطراف المتورطة في الأحداث المُجرمة، بل حتى في البلدان المتقدمة، ساعدت أنشطة المتهمين والمشتبه بهم على الشبكات الاجتماعية في كشف تورطهم من عدمه في القضايا المتهمين فيها، وفي فهم مسارات التحول التي أفضت بهم إلى ارتكاب بعض الجرائم.
وعندما زادت أهمية الحملات الدعائية على الشبكات الاجتماعية في إحداث التغيير الثقافي والاجتماعي والسياسي، انتبهت السلطات لضرورة تقصي مصادر تلك الحملات، وهو أمر امتد أيضاً إلى المجتمع المدني والمستخدمين العاديين.
ولأن نشاط ما يُسمى بـ«اللجان الإلكترونية» زاد بحدة في الآونة الأخيرة؛ فقد ظهرت آليات مواجهة رسمية ومجتمعية لتأثيرها المثير للجدل، ومن ضمن تلك الآليات تم إرساء «تحليل الشبكات الاجتماعية» كأداة ناجعة في كل الأوقات.
وقد نشأت مئات المنظمات المعنية بتحليل الأنشطة على «الإنترنت»، وإخضاع المؤثرين الجدد للفحص والتقصي بشأن نشأتهم على الشبكة، ومسارات التحول في خطاباتهم، والروابط التي تجمعهم بآخرين، وجهود الترويج المدفوعة التي يستخدمونها لتعزيز نفاذ رسائلهم. وإضافة إلى الجهود التي تبذلها السلطات الرسمية، بات لدينا مئات الأسماء لمنظمات ناشطة على الشبكة لتصحيح الأخبار الخاطئة، أو كشف الروابط التنظيمية بين قطاعات من المؤثرين، أو فضح تحولاتهم غير المسوغة، وصولاً إلى تحليل الدوافع المفترضة لأنشطتهم.
وكما تغري الشبكة بالتزييف وارتكاب الجرائم المتصلة بالمعلوماتية، فإنها توفر مجالاً للتصدي والحد من الأضرار، وهذا من الأخبار الجيدة على أي حال.