منذ فترة “تلعب” فرنسا في الحديقة الخلفية للجيش اللبناني، ما لم يرق للولايات المتحدة التي تمتلك معطيات حول طبيعة الدور الذي تبحث عنه باريس.
تحاول باريس التسلّل إلى اليزرة عبر أكثر من طريقة. قبل معركة “طوفان الأقصى”، حاولت العبور من خلال الأزمة التي يعاني منها العسكريون، وطرحت فكرة المساعدة على تأمين تمويل لمصلحة الجيش من دون أن تترافق مع خطة واضحة. ما لبثت أن ذهبت بعدها، إلى طرح أفكار عامة حول تأمين تمويل مصدره الدول الصديقة، مع إبداء الإستعداد لتقديم “ضمانات” تسمح في تأمين الدعم. ترافق ما تطرحه مع فتح علاقات مع بعض الضباط المسؤولين في قيادة الجيش. ولحينه، لم تُفهم دوافع باريس من سلوك مسار جانبي، سوى إيجاد موطئ قدم مؤثّر لدى المؤسسة.
بعد “طوفان الأقصى” تطوّر موقف الإدارة الفرنسية، وبدأ يُلاحظ أن الأخيرة، ومن باب إيجاد حلول لما يسمّى “إنتشار فرقة الرضوان عند الحدود الجنوبية”، باتت تخلق أفكاراً، من بينها ما ارتبط بطروحات حول زيادة عديد الجيش اللبناني المنتشر في الجنوب إلى ما يزيد عن 8000 جندي، بهدف نشرهم على الحدود فور التوصل إلى اتفاقٍ يتضمن وقفاً لإطلاق النار، مع محاولة بحث أفكار حول كيفية تمويل انتشارهم، مترافقة مع أخرى تتعلّق بكيفية إنهاء الحرب في الجنوب وتقديم مقترحات كان آخرها “الورقة الفرنسية”.
ومن خارج أي آلية تنسيق، ذهبت باريس إلى تسويق الفكرة على كونها “خطة” ضرورية تترافق مع التوصل إلى حل للجبهة المفتوحة في الجنوب، على أن تترافق أي خطوة انتشار مع رفع نوعية المساعدات المالية، وهو ما يخالف مثلاً رغبات واشنطن التي تريد أولاً التوصل إلى تصوّر واضح حول وضعية الجنوب، ومن ثم تبدأ الترتيبات لا العكس. وللغاية، عقد مسؤولون فرنسيون إجتماعات مع مسؤولين لبنانيين، وقاموا بتواصل في أكثر من مناسبة، طارحين أفكارهم في هذا الصدد، من بينها أن يترافق انتشار الجيش مع تلازم في مسار دعمه، وهو ما قادهم في وقتٍ لاحق إلى طرح فكرة الدعوة إلى مؤتمر لدعم الجيش، يعقد في باريس بتاريخ 27 من الشهر الجاري، تخرج عنه “حزمة” مساعدات.
لم يرقَ الأمر لواشنطن، ببساطة لأن ما تبحث عنه العاصمة الأميركية يختلف عمّا تريده أو تسعى إليه باريس، ولأن أي ملف مرتبط بالجيش اللبناني أو ما يبحث حوله أو معه لا يجب أن يحصل من خارج التشاور القائم ضمن “الخماسية”، على اعتبار أن الأخيرة، وفي التفاهم المشترك بين الدول الأعضاء، جرى التوافق حول حصة كل واحدة وحول آليات تنسيق واضحة، وعن حدود تأثر كل طرف ودوره. وفهم الجميع أن المسائل المرتبطة بالمؤسسة العسكرية مسألة حيوية تخصّ واشنطن، ويجب التنسيق معها فيه كما تفعل الدوحة مثلاً، وهو ما لم توله باريس اهتماماً، لا عند قرار التفرّد في مفاتحة الجانب اللبناني حول مساعدات لمصلحة الجيش، ولا حول مسألة المؤتمر المنوي عقده في باريس. ويقال أيضاً إن “الورقة الفرنسية” راعت طروحات واشنطن، لكن الخطوة لم تبدأ بتنسيق أفكار بين الجانبين، إنما تفرّدت باريس في تقديم صيغة ثم ذهبت لتنسيقها لاحقاً. كذلك تبيّن أن باريس لم تطلع أياً من الدول الأعضاء ضمن “الخماسية” على برنامج عمل واضح بالنسبة إلى المؤتمر الخاص بدعم الجيش، ولم يتمّ التشاور حول أيّ من البنود، فيما باريس تجاوزت كما يبدو الإطار الأساسي الموضوع لموعد المؤتمر، وحولته فجأة من إطار “تشاوري” إلى إظهاره بمظهر مؤتمر عام ستخرج في آخره قرارات وتوصيات، ما دفع بواشنطن إلى إبداء “عدم رغبة” في المشاركة، كما حمل دولاً أخرى إلى سلوك المسار نفسه.
هناك عامل آخر يفرض نفسه، يتصل بالرؤية الأميركية لـ”اليوم التالي” على الجبهة اللبنانية. تعتقد واشنطن أن أي طرح يتعلق بالجيش لا يجب أن يُبادر إليه الآن طالما أن جبهة جنوب لبنان لم تتضح معالمها بعد، وطالما أن المفاوضات حولها ما زالت جارية. وتعي الإدارة الأميركية أن هناك صعوبات يعمل على حلّها مبعوثهم إلى المنطقة آموس هوكشتين، وبالتالي، المسار يحتاج إلى وقت لإنضاجه، ويجب الإنتظار وزيادة حجم الضغط المتأتي عن السلوك الأميركي والتهديدات الإسرائيلية لتأمين “إختراقات”. ولا تنفع في سياق ذلك أي بوادر توحي بحلول للأزمات اللبنانية، بل إن واشنطن في حالة التدقيق، يبدو أنها تربط أيضاً جبهة غزة بجبهة جنوب لبنان، لكن وفق طريقتها.
عملياً، ما تقوم به باريس مع الجيش ليس الدور “النافر” الوحيد الذي يزيد من وتيرة الازمات ولا يسهم في حلها. ثمة أكثر من مسار تعتمده باريس على شكل ضغوطات تحاول من خلالها تأمين حضور أكثر تأثيراً.
منذ مدة تخوض الديبلوماسية الفرنسية أسلوباً ذكياً أشبه بالتلاعب في الدولة. بينما يوحي فريقها في بيروت من خلال “الخماسية” أنها تبحث حلولاً للأزمة السياسية والرئاسية، ويتحرّك سفيرها على أكثر من مستوى، يقوم المستوى الآخر الذي يأتي إلى بيروت على شكل موفدين، بإبلاغ رسائل تهديد حول قرب قيام إسرائيل بعملية عسكرية شاملة باتجاه لبنان. وخلال الفترة الأخيرة أوصلت باريس رسائل واضحة في هذا الإطار، وأشارت بامتلاكها معطيات حقيقية في هذا المجال، وحاولت استغلالها من أجل إقناع الدولة اللبنانية ممارسة ضغوطات “أكثر جدوى” على “حزب الله” كي يبادر، في مرحلة أولى، للإبتعاد عن خط الحدود مسافة لا تقل عن 4 كلم، ما قد يدفع إلى إقناع إسرائيل بالعدول عن أي ضربة! ومن الواضح أيضاً أن باريس تستخدم جميع أوراقها المتاحة وزادت عليهم أيخراً بنداً يتعلق بدور شركة “توتال”، التي بدأت هي الأخرى سياسية حصار وضغط على لبنان بهدف لَيّ ذراعه مستخدمة حاجته إلى الثروات البترولية.