يقرأ سياسي مخضرم في ملامح المرحلة السياسية اللبنانية التي ستتكوّن بعد انتهاء الحرب في غزة والجنوب، ويرى أن الصفقة التي ستُنهي هذه الحرب هي البوصلة التي يمكن من خلالها تبيان صورة هذه المرحلة، والتي ترتكز بدايةً على من سيكون المنتصر أو المهزوم في هذه الحرب، فكل حالة لها حيثيتها الخاصة.
فلبنان في صيغته الحالية معطّل الآن، وهو مشهد سبق وأن تكرّر كما في حقبات سابقة، ولطالما تعطّلت هذه الصيغة كلما نشبت ظروف إقليمية أو حروب إقليمية كبيرة، أو أزمات إقليمية حتى، وليس في الضرورة حروب، فالأزمات كانت تطيح بالسلم.
بالمقابل، يعترف السياسي المخضرم، إن كل الباحثين والمفكرين و”اليائسين” من هذه الصيغة اليوم، وتاريخياً أيضاً، عجزوا عن إيجاد صيغة بديلة، لذلك وحتى هذه الساعة، ورغم كل مساوئها وضعفها، فإن هذه الصيغة لا تزال هي الوحيدة الممكنة والمعقولة.
قد يُسمع بين الحين والآخر، كلام يتّجه إلى الخروج من صيغة الوحدة الوطنية أو العيش المشترك، كلامٌ يتحدث عن التقسيم، وإن كان الكل يعلم بأن موضوع التقسيم ليس موضوعاً سهلاً. ويقول السياسي المخضرم، إن تطبيق هذا التقسيم ليس أمراً ممكناً أولاً، والتقسيم يفترض بأن توافق عليه الدول المجاورة ثانياً، لأنه سيؤدي إلى ولادة كيانات جديدة على حدودها، فلا يكفي أن يقرّر اللبنانيون تقسيم البلد بأنفسهم، بل إن طريقة تعاطي المحيط مع هذا التقسيم أيضاً، يلعب دوراً في تحديده وهو أمر صعب للغاية.
وباعتقاد السياسي المخضرم، أنه لو تمكن العلماء الذين كانوا حول الرئيس الراحل الشيخ بشير الجميل في جامعة الكسليك، والذين كانوا يجتمعون أسبوعياً، من إيجاد صيغة تقسيمية، لما أعلن الشيخ بشير الجميل لبنان ال10452 كلم، لأنه أعلنها عندما أدرك بأن موضوع التقسيم هو موضوع مستحيل.
وإلى جانب حديث التقسيم، يأتي كلام آخر عن الفيديرالية، والتي ليست بشيء مضرّ، على حدّ قول السياسي المخضرم، والذي يكشف بأن الفيديرالية تفترض وحدة وطنية، مع خصوصيات لكل منطقة، وبالتالي، فهي عكس التقسيم، كونها تفترض دولة واحدة وجيشاً واحداً ورئيساً واحداً بسياسة خارجية واحدة، وسياسة دفاعية واحدة، وسياسة مالية واحدة. إنما من الواجب الإقرار، بأن مشكلة الفيديرالية، وإن كانت تحلّ بعض القضايا اليومية مثل الكهرباء والمياه والخدمات وقضية الضرائب… إلخ، فهي لا تحلّ القضايا الأساسية كوحدة السياسة الخارجية، لأن الإتفاق عليها يُنهي كل مشاكل لبنان، وتنتفي حاجته إلى التقسيم.
ومن المفيد التذكير هنا، بأن صيغة الطائف فعّالة، ولو أنها سقطت من باب عدم الإتفاق على الصيغة الدفاعية أو السياسة الخارجية، بينما الفيديرالية لا تحلّ هاتين المشكلتين، لأنه إذا كان هناك عدة كانتونات في لبنان طبقاً للنظام الفيديرالي، وأحد هذه الكانتونات يريد مقاتلة إسرائيل، والكانتون الآخر لا يريد ذلك، ماذا يفعل الجيش اللبناني؟ وكيف يتصرّف رئيس الجمهورية؟ فنعود ونقع في المشكلة ذاتها.
لذلك، يرى السياسي المخضرم، أنه وإن كانت بعض جوانب الفيديرالية ليست ضارة من حيث تنظيم الأوضاع الداخلية واللامركزية الإدارية والخدماتية، إلاّ أن هذا الأمر لا يحلّ مشكلة لبنان الأساسية، وكل مشاكل اللبنانيين، منذ التاريخ القديم حتى اليوم نتجت عن مشاكل خارجية، نتجت عن تفكك السياسة الخارجية حيال النظرة الخارجية، فثورة العام 58 كانت نتيجة صراع كبير بين القومية العربية الناصرية وبين حلف بغداد الأميركي، فانقسمت البلاد وطارت معها السياسة الخارجية، وحرب العام 1975 أتت نتيجة إنشقاق في موضوع النظرة لدور المقاومة الفلسطينية مَن حالفها ومَن خاصمها”.
ومع كل حرب تزدحم علامات الإستفهام حول اليوم التالي، ولكن ليس عسكرياً، لأنه رغم جلاء غبار المعركة، فإن معالمها ونتائجها ستحضر على طاولة أي لقاء أو حوار أو صيغة تسوية هجينة يتمّ تكريسها بحكم الأمر الواقع وبنتيجة الميدان، وسيتحدّد وجه لبنان وهويته والطرف الذي سيشبهه والذي لن يعجب غالبية اللبنانيين، الذين يجلسون اليوم في موقع المتفرّج على الحرب، ولن يكون بإمكانه المغادرة بعد كتابة كلمة النهاية.